فصل: من فوائد الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأغلب معاني الغلبة في القرآن الغلبة بالسيف والسنان كقوله: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مائة يغلبوا أَلْفًا مِّنَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 65] الآية. وقوله: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مائة صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] وقوله: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1- 4] وقوله: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً} [البقرة: 249] وقوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] إلى غير ذلك من الآيات.
وبين تعالى أن المقتول ليس بغالب بل هو قسم مقابل للغالب بقوله: {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ} [النساء: 74] فاتضح من هذه الآيات أن القتل ليس واقعًا على النَّبي المقاتل. لأن الله كتب وقضى له في أزله أنه غالب وصرح بأن المقتول غير غالب.
وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين، غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميعهم، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل الله. لأن من لم يؤمر بالقتال ليس بغالب ولا مغلوب. لأنه لم يغالب في شيء وتصريحه تعالى، بأنه كتب أن رسله غالبون شامل لغلبتهم من غالبهم بالسيف، كما بينا أن ذلك هو معنى الغلبة في القرآن، وشامل أيضا لغلبتهم بالحجة والبيان، فهو مبين أن نصر الرسل المذكور في قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] الآية وفي قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 171- 172] أنه نصر غلبة بالسيف والسنان للذين أمروا منهم بالجهاد. لأن الغلبة التي بين أنها كتبها لهم أخص من مطلق النصر. لأنها نصر خاص، والغلبة لغة القهر والنصر لغة إعانة المظلوم، فيجب بيان هذا الأعم بذلك الأخص.
وبهذا تعلم أن ما قاله الإمام الكبير ابن جرير- رحمه الله- ومن تبعه في تفسير قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ} الآية.
من أنه لا مانع من قتل الرسول المأمور بالجهاد، وأن نصره المنصوص في الآية، حينئذ يحمل على أحد أمرين:
أحدهما: أن الله ينصره بعد الموت، بأن يسلط على من قتله من ينتقم منه، كما فعل بالذين قتلوا يحيى وزكريا وشعيا من تسليط بختنصر عليهم، ونحو ذلك.
الثاني: حمل الرسل في قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] على خصوص نبينا صلى الله عليه وسلم وحده، أنه لا يجوز حمل القرآن عليه لأمرين:
أحدهما: أنه خروج بكتاب الله عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل من كتاب، ولا سنة ولا إجماع، والحكم بأن المقتول من المتقاتلين هو المنصور بعيد جدًا، غير معروف في لسان العرب، فحمل القرآن عليه بلا دليل غلط ظاهر، وكذلك حمل الرسل على نبينا وحده صلى الله عليه وسلم فهو بعيد جدًا أيضا، والآيات الدالة على عموم الوعد بالنصر لجميع الرسل كثيرة، لا نزاع فيها.
الثاني: أن الله لم يقتصر في كتابه على مطلق النصر الذي هو في اللغة إعانة المظلوم، بل صرح بأن ذلك النصر المذكور للرسل نصر غلبة بقوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] الآية، وقد رأيت معنى الغلبة في القرآن ومر عليك أن الله جعل المقتول قسمًا مقابلًا للغالب في قوله: {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ} [النساء: 74] وصرح تعالى بأن ما وعد به رسله لا يمكن تبديله بقوله جل وعلا: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} [الأنعام: 34] ولا شك أن قوله تعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] من كلماته التي صرح بأنها لا مبدل لها وقد نفى جل وعلا: عن المنصور أن يكون مغلوبًا نفيًا باتًا بقوله: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160] وذكر مقاتل أن سبب نزول قوله تعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ} الآية أن بعض الناس قال: أيظن محمد وأصحابه أن يغلبوا الروم، وفارس، كما غلبوا العرب زاعمًا أن الروم وفارس لا يغلبهم النَّبي صلى الله عليه وسلم لكثرتهم وقوتهم فأنزل الله الآية، وهو يدل على أن الغلبة المذكورة فيها غلبة بالسيف والسنان. لأن صورة السبب لا يمكن إخراجها، ويدل له قوله قبله: {أولئك فِي الأذلين} [المجادلة: 20] وقوله بعده: {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب، أننا نستشهد للبيان بالقراءة السبعية بقراءة شاذة، فيشهد للبيان الذي بيَّنَّا به، أن نائب الفاعل {رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146] وأن بعض القراء غير السبعة قرأ {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146] بالتشديد. لأن التكثير المدلول عليه بالتشديد يقتضي أن القتل واقع على الربيين.
ولهذه القراءة رجح الزمخشري، والبيضاوي، وابن جنى.
أن نائب الفاعل {رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146] ومال إلى ذلك الألوسي في تفسيره مبينًا أن دعوى كون التشديد لا ينافي وقوع القتل على النَّبي. لأن {وَكَأَيِّنْ} [آل عمران: 146] إخبار بعدد كثير أي: كثير من أفراد النَّبي قتل خلاف الظاهر، وهو كما قال، فإن قيل قد عرفنا أن نائب الفاعل المذكور محتمل لأمرين، وقد ادعيتم أن القرآن دل على أنه {رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146] لا ضمير النَّبي لتصريحه بأن الرسل غالبون، والمقتول غير غالب، ونحن نقول دل القرآن في آيات أخر، على أن نائب الفاعل ضمير النَّبي، لتصريحه في آيات كثيرة بقتل بعض الرسل كقوله: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] وقوله: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} [آل عمران: 183] الآية، فما وجه ترجيح ما استدللتم به على أن النائب {رِبِّيُّونَ} على ما استدللنا به على أن النائب ضمير النَّبي فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن ما استدللنا به أخص مما استدللتم به، والأخص مقدم على الأعم، ولا يتعارض عام وخاص، كما تقرر في الأصول، وأيضاحه أن دليلنا في خصوص نبي أمر بالمغالبة في شيء، فنحن نجزم بأنه غالب فيه تصديقًا لربنا في قوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] سواء أكانت تلك المغالبة في الحجة والبيان، أم بالسيف والسنان، ودليلكم فيما هو أعم من هذا. لأن الآيات التي دلت على قتل بعض الرسل، لم تدل على أنه في خصوص جهاد، بل ظاهرها أنه في غير حهاد، كما يوضحه.
الوجه الثاني: وهو أن جميع الآيات الدالة على أن بعض الرسل قتلهم أعداء الله كلها في قتل بني إسرائيل أنبياءهم، في غير جهاد، ومقاتله إلا موضع النزاع وحده.
الوجه الثالث: أن ما رجحناه من أن نائب الفاعل {رِبِّيُّونَ} تتفق عليه آيات القرآن اتفاقًا واضحًا، لا لبس فيه على مقتضى اللسان العربي في أفصح لغاته، ولم تتصادم منه آيتان، حيث حملنا الرسول المقتول على الذي لم يؤمر بالجهاد، فقتله إذن لا غشكال فيه، ولا يؤدي إلى معارضة آية واحدة من كتاب الله. لأن الله حكم للرسل بالغلبة، والغلبة لا تكون إلا مع مغالبة، وهذا لم يؤمر بالمغالبة في شيء، ولو أمر بها في شيء لغلب فيه، ولو قلنا بأن نائب الفاعل ضمير النَّبي لصار المعنى أن كثيرًا من الأنبياء المقاتلين قتلوا في ميدان الحرب، كما تدل عليه صيغة {وَكَأَيِّن} [آل عمران: 146] المميزة بقوله: {من نبي} [المجادلة: 21] وقتل الأعداء هذا العدد الكثير من الأنبياء المقاتلين في ميدان الحرب مناقض مناقضة صريحة لقوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] وقد عرفت معنى الغلبة في القرآن، وعرفت أنه تعالى، بين أن المقتول غير الغالب، كما تقدم، وهذا الكتاب العزيز ما أنزل ليضرب بعضه بعضًا، ولكن أنزل ليصدق بعضه بعضًا، فاتضح أن القرآن دل دلالة واضحة على أن نائب الفاعل {رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146] وأنه لم يقتل رسول في جهاد، كما جزم به الحسن البصري وسعيد بن جبير، والزجاج، والفراء، وغير واحد، وقصدنا في هذا الكتاب البيان بالقرآن، لا بأقوال العلماء، ولذا لم ننقل أقوال من رجح ما ذكرنا.
وما رجح به بعض العلماء كون نائب الفاعل ضمير النَّبي من أن سبب النزول يدل على ذلك.
لأن سبب نزولها أن الصائح صاح قتل محمد صلى الله عليه وسلم وأن قوله: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] يدل على ذلك وأن قوله: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} [آل عمران: 146] يدل على أن الربيين لم يقتلوا لأنهم لو قتلوا لما قال عنهم {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ} [آل عمران: 146] الآية. فهو كلام كله ساقط وترجيحات لا معول عليها فالترجيح بسبب النزول فيه أن سبب النزول لو كان يقتضي تعيين ذكر قتل النَّبي لكانت قراءة الجمهور قاتل بصيغة الماضي من المفاعلة جارية على خلاف المتعين وهو ظاهر السقوط كما ترى والترجيح بقوله: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] ظاهر السقوط. لأنهما معلقان بأداة الشرط والمعلق بها لا يدل على وقوع نسبة أصلًا لا إيجابًا ولا سلبًا حتى يرجح بها غيرها.
وإذا نظرنا إلى الواقع في نفس الأمر وجدنا نبيهم صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لم يقتل ولم يمت والترجيح بقوله: {فَمَا وَهَنُواْ} [آل عمران: 146] سقوطه كالشمس في رابعة النهار وأعظم دليل قطعي على سقوطه قراءة حمزة والكسائي {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} [البقرة: 191] كل الأفعال من القتل لا من القتال وهذه القراءة السبعية المتواترة فيها.
{فَإِن قَاتَلُوكُمْ} [البقرة: 191] بلا ألف بعد القاف فعل ماض من القتل {فاقتلوهم} [البقرة: 191] أفتقولون هذا لا يصح لأن المقتول لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله. بل المعنى قتلوا بعضكم وهو معنى مشهور في اللغة العربية يقولون قتلونا وقتلناهم يعنون وقوع القتل على البعض كما لا يخفى. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله}.
{وَكَأَيِّن} هذه يقولون: إنها للتكثير، مثل كم؛ فعندما يقول لك إنسان مثلا: لماذا تجافيني؟ فتقول له: كم زرتك؟ إن قولك: كم زُرتك! في ظاهرها أنها استفهام، وأنت لا تريد أن تقول له مستفهما كم مرة زرته فيها، بل تقول له: أنت الذي عليك أن تقول- لأنك بقولك ستعترف أني زُرتك كثيرا، فيكون الجواب موافقا لما فعلت. وأنت لا تقول كم زرتك إلا وأنت واثق أنه إذا أراد أن يجيب فسيقول: زرتني كثيرا ولو كنت لا تثق أنه سيقول: زرتني كثيرا، لَمَا قلتها، فعندما تقول له: كم زرتك، كم تفضلت عليك، كم واسيتك، كم أكرمتك؟ فإن كم تأتي للتكثير، وتأتي مثلها كأين إنها للتكثير أيضا، عندما تقول مثلا: ياما حصل كذا وياما هذه معناها كأيِّن.
وقد يسألك صديق: كيف حدثت هذه الحكاية؟ فتقول له: كأي رجل يفعل كذا ويحصل له كذا، اي ان المسأله ليست غريبة، إن قولك: كأي رجل معناها أنها شاعت كثيرا، وعندما تقول: كم مرة زرتك، وكم من مرة زرتك فهذان الاستعمالان صحيحان والمعنى: كثير من نبي قاتل معه مؤمنون برسالته كما حدث وحصل مع رسول الله. وقوله الحق {رِبِّيُّونَ} أي ناس فقهاء فاهمون سبل الحرب، و{ربيون} أيضا تعني أتباعا يقاتلون، و{ربيون} يمكن أن ينصرف معناها إلى أن منهجهم إلهي مثل الربانيين.
وقول الحق: {فَمَا وَهَنُواْ} أي ما ضعفوا، إذن فهو يريد أن يأتي بالأسوة، وكأنه سبحانه يقول: أنتم لماذا ضعفتم في موقفكم في غزوة أُحُد وأنتم تقاتلون مع رسول الله. لقد كان الأولى بكم أن يكون حماسكم في القتال معه أشد من حماس أي أتباع نبي مع نبيهم؛ لأنه النبي الخاتم الذي سيضع المبدأ الذي ستقوم عليه الساعة، ولن يأتي أحد بعده، فكان يجب أن تتحمسوا؛ فأنتم خير أمة أخرجت للناس، وأنا ادخرتكم لذلك.
إن الحق يعطيهم المثل وفيه تعريض بهم وعتاب لهم، وفي هذا القول تعليم أيضا، فيقول: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ} أي وكثير من الأنبياء {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ} ونستوحي من كلمة {وَهَنُواْ} أي ما ضعفوا. فكأنه قد حدث في القتال ما يضعف، {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ} أي ما حدثت لهم نكسة مثلما حدثت لكم.
{وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ}. وكل من {وَهَنُواْ} و{ضَعُفُواْ} و{اسْتَكَانُواْ} هذه جاءت في موقعها الصحيح؛ لأن الوهن بداية الضعف، والوهن محله القلب وهو ينضح على الجوارح ضعفا.
و{اسْتَكَانُواْ} ماذا تعني؟ إنها من سكن. والسكون تقابله الحركة.
والحرب تحتاج إلى حركة، والذي يأتي للحرب فهو يحتاج إلى كرّ وفر. أما الذي لا يتحرك فهذا معناه أنه ليس لديه قدرة على أن يتحرك، وساعة تسمع- الألف والسين والتاء- وتأتي بعدها كلمة، نعلم أن (الألف والسين والتاء) للطلب، فاسْتَفْهَم أي طلب أن يفهم، وهي تأتي لطلب المادة التي بعدها. كأن نقول: استعلم أي طلب أن يعلم، أو نقول: استخبر أي طلب الخبر، واستكان يعني طلب له كوْنًا أي وجودًا، فكأنهم بلغوا من الوهن ومن الضعف مبلغًا يطلبون فيه أن يكون لهم مجرد وجود؛ لأن الوجود مظهره الحركة، والحركة انتهت، هذا هو معنى {اسْتَكَانُواْ}.
وما دامت مِن الكون يكون وزنها- مثلما يقول الصرفيون- استفعل يعني طلب الكون، وطلب الوجود، وقد يكون وزنها ليس كذلك؛ إذا كانت من سكن، وهي بهذا الاعتبار لا يكون فيها طلب؛ لأن السين ستكون أصلية، فوزنها ليس استفعل بل هو افتعل فاستكانوا هل تعني أنهم طلبوا السكون؟ لا؛ لأنهم كانوا ساكنين، إذن فالأولى أن يكون معناها أنهم طلبوا مجرد الوجود، هذا ما أميل إليه وأرجحه، وقيل في معناها: فما خضعوا وما ذَلوا من الاستكانة: وهي الذلة والخضوع.
{فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} فما يصيب العبد ابتلاء من الله، وفي الحديث: «إذا أحب الله قوما ابتلاهم».
وكل ذلك الوهن والضعف، لا يشغلهم عن المعركة، لأنهم لو صبروا على التحمل لأمدهم الله بمدد من عنده؛ لأنه حين تفرغ أسباب الخلق وتنتهي يأتي إمداد الخالق.
ويلفتنا الحق سبحانه وتعالى بتذييل الآية: {وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} أي وكفى جزاء عن الصبر أن تكون محبوبا لله؛ لأننا قلنا سابقا: قد نحب الله لنعمه التي أنعمها علينا، ولكن المسألة ليست في أن تحب الله أنت، وإنما في أن تصير بتطبيق منهجه فيك محبوبا لله. وقد أثر عن بعضهم قوله:
وإلا أَلم تَرَ كثيرًا أحَبَّ ولم يُحَبْ؟!!
أنت أحببت للنعم، ولكنك تريد أن تكون محبوبا من الله؛ لأن حبك للنعم لا يكفي، فمثل هذه النعم أخذها الكافر أيضا، إذن فهناك حاجة أخرى. هناك مقدم وهناك ومؤخر فالمقدم هو نعم الحياة وكل البشر شركاء فيها مؤمنهم وكافرهم، ولكن المؤخر هو جزاء الله في الآخرة وهو الأصل.
إذن، فلو أن الناس فطنوا إلى قول الله: {وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} لقالوا: كفى بالجزاء عن الصبر أن نكون محبوبين لله، حين أصابهم ما أصابهم. صحيح أن الإصابة لم تصنع فيهم وهنًا أو ضعفا أو استكانة، وهذا معناه أن فيهم مُسكة اليقين بالله.
ومُسكة اليقين بالله تجعلهم أهلا لإمداد الله. فليس لك إلا أن تصبر على ما أنت فيه لتعرف مدد الله لك. ومدد الله لك لا يتجلى بحق إلا وقت الضعف؛ لأنك وقت قوتك قد تعمل مثل الذي قيل فيهم: {فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49].
لكن المؤمنين حين أصابهم ما أصابهم {فَمَا وَهَنُواْ}؛ لأِنَّهم كانوا متيقظين إلى قضية إيمانية: إن الله لا يسلمك لنفسك إلا حين تغيب عنه، فقالوا: ولماذا حدث لنا هذا؟ لم يقولوا: ربنا انصرنا كي نخرج من الضعف، لا. بل فكروا في الأسباب التي أدت بهم إلى هذا: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}. اهـ.